كنا وأصبحنا
زيد الحلي
للذكريات تجاعيد، تماماً كالسنين، غير أنها تسكن الأرواح لا الوجوه، لا سيما حين لم يعد النسيان ممكناً، فبعض ذكرياتنا أفضل من كل ما يمكن أن يحدث لنا ثانيةً، وحين يقلب العراقيون، كتاب ذكرياتهم، يجدون ما هو بهي، إلى جانب ما هو مظلم. وكمثال على الحالين، يعلن العراق افتتاح أول مصنع لتعليب التمور سنة 1930 .. وتم اختيار ثغر العراق البصرة الفيحاء، مكاناً لهذا المصنع الذي زُود بآلات إنكليزية وهندية الصنع.
وبقي العراقيون يتذوقون التمور المعلبة والمحشوة باللوز والجوز والبندق، وهي مغلفة بالسلوفان سنوات، بمتعة ونشوة، وتنبه الإخوة الخليجيون إلى هذا الحدث الصناعي الكبير في وقتها، وهم الذين كانوا يهيمون بتذوق التمر العراقي من خلال أكياس بدائية تسمى (كيشة) مصنوعة من (الخوص) أو بما يسمى بالحلان وهي مصنوعة من جلد الماعز والخراف، فكيف بالتمر العراقي وقد احتضنه ورق لماع مثل شعاع الشمس موشوم برسم نخلة عملاقة؟ فأقبلوا على شرائه واستيراده. وكانت الكويت والبحرين من الأسواق المهمة للتمور العراقية في حلتها الصناعية الجديدة.
وتزداد شهرة التمر العراقي المعلب لتصل إلى إنكلترا، فأخذت سلسلة الأسواق العالمية (أورزدي باك) تسوّقها لمواطنيها في كل بقاع العالم مقرونة بعبارة (صنع في العراق) ويزدهر الأمر وتتوسع صناعة التعليب لتضم مصانع أخرى في الفرات الأوسط، وتنشئ الدولة الفقيرة بوارداتها مصنعاً للتعليب في كربلاء، لإنتاج تمور معلبة ملحقاً بها مصنع لإنتاج (عسل التمر) وهو الدبس، وتتأسس بعد ذلك شركة تضم أحدث المكائن لتصنيع وتعليب التمور باسم (شركة التمور العراقية) المختلطة، وما زالت أطلالها باقية قرب جامع براثا ببغداد حتى الآن، وكما قال قارئ ستراتيجية العراق، الفنان الكبير (عزيز علي) طيب الله ثراه، بأن دوام الحال من المحال. بدأت هذه الصناعة بالاندثار، ثم اضمحلــت وبدلاً من القيام بخطوات إنعاش لهذه الصناعة بادرت (الدولة) إلى خطوة "خطيرة " متمثلة بإرسال أطنان من التمور إلى إحدى الشقيقات في الخليج العربي، لتعليبها وإعادتها إلينا وفق سياسة غريبة تؤكد أن الاستهلاك أهم من الإنتاج!.
معذرة لوطن كان بلد النخيل الأول في العالم، لكن أصبح شعبه يحلم بـ (ماعون) فيه بضع حبات من تمور البرحي أو الخضراوي أو البربن أو البريم أو الخستاوي أو أصابع العروس!